
*كلمة السيد عثمان كاير* *رئيس المرصد الوطني للتنمية البشرية* في الندوة الوطنية حول ” *الدولة الاجتماعية: المرجعيات، السياسات والرهانات*”
الثلاثاء 20 ماي 2025
حضرات السيدات والسادة.
يطيب لي أن أشارك اليوم في فعاليات الندوة الوطنية حول موضوع “الدولة الاجتماعية: المرجعيات، السياسات والرهانات” برحاب كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط.
لقد شكل الورش الملكي الكبير للدولة الاجتماعية، باعتباره ورشا ينتمي إلى الزمن الاستراتيجي في أفقه الإِصلاحِي وطبيعته المُهيكلة التي تستشرف بناء نموذج اجتماعي جديد، تحولاً جذرياً لِمُحدِّدات العلاقة بين المواطن والدولة، كما طالت آثاره بشكل عميق كل منظومة الفعل العمومي في أبعادها ذات الصلة بالسياسات، والقيم، ونموذج الحكامة.
في هذا الإطار، يسجل مسار التفعيل المتواصل للورش الملكي للدولة الاجتماعية تحولاً نوعياً على مستوى المقاربات المنهجية، في مستويات المضامين والسياسات والإجراءات والتشريعات، وكذا على صعيد إعادة بناء الهيكلة المؤسساتية المناسبة لتحقيق أهدافه، مع ما تقتضيه من جهود المبادرة والتنسيق والتواصل، ذات الصلة بملف مُركب يحمل الكثير من القطائع والتحديات المجتمعية والتدبيرية.
ويسترعي ورش الدولة الاجتماعية تسجيل أربع ملاحظات أساسية:
* الملاحظة الأولى:
يسمح تتبع دينامية الورش الملكي للدولة الاجتماعية، بالوقوف للمرة الأولى على انتقال الاهتمام بالمسألة الاجتماعية من دائرة التدبير القطاعي الصرف، ثم فيما بعد من دائرة السياسات العمومية إلى مستوى السياسة العامة، وهو ما يعني في تقاطع لافت بين اللغة المعيارية لدستور 2011 ومعجم التدبير الحديث، انتقالا مؤكدا إلى دائرة الفعل الاستراتيجية، على نحو يمكننا من القول بعيدا عن أي استعارة مجازية أن الدولة الاجتماعية هي الوجه الأخر للدولة الاستراتيجية باعتبارها إعادة تعريف يومي للسياسة كاختيارات كبرى للأمة وكحرص دقيق على ملائمة التدابير والسياسات مع الغايات المُهيكلة للمشروع المجتمعي الذي يقوده جلالة الملك محمد السادس حفظه الله .
* الملاحظة الثانية:
تمثل الدولة الاجتماعية مساراً حاسماً في دينامية إخراج المسألة الاجتماعية من سقف الانتظارية، ومن معادلة الارتهان لمعطيات السياسة أو الاقتصاد، سواء تعلق الأمر بانتظارية سياسوية ظلت لعقود تؤجل الشأن الاجتماعي إلى حين توفر ما يكفي من الاصلاحات السياسية، أو بانتظارية اقتصادية عملت بقوة على تأجيل “الاجتماعي” لحين توفر ما يكفي من ثمار النمو.
في المقابل فإن البديل الحالي الذي يطبع ورش الدولة الاجتماعية، كتجاوز لسقف الانتظارية المُعطلة، هو جوهرها الإرادوي الواضح.
* الملاحظة الثالثة:
من الجيد الانتباه إلى أن المهم في مشروع كبير ومُهيكل مثل الدولة الاجتماعية، هو ليس فقط حجم الاعتمادات المالية المخصصة له، ولكن كذلك وبالأساس العناصر التالية:
1. أولاً: التغيير الهيكلي في ترتيب الأولويات الكبرى وضمنها المسألة الاجتماعية؛
2. ثانياً: حجم تحولات هندسة السياسات العمومية المتفرعة عن السياسة العامة المُتضمنة للاتجاهات العامة للدولة الاجتماعية، في تقاطعاتها القطاعية والأفقية والترابية، وفي نموذجها المؤسسي المبتكر؛
3. ثالثاً: الطابع الإرادي للفعل العمومي الحامل لامتدادات هذا الورش الكبير، وما يرتبط به من التزام ملكي سامي بكل الحمولة الدستورية والسياسية والتاريخية للمؤسسة الملكية كقائدة فعلية للمشروع المجتمعي لبلادنا.
4. الملاحظة الرابعة:
لابد من التأكيد على أن حجم هذا المشروع وامتداداته داخل ميكانيزمات الفعل العمومي وتمفصلات السياسات والبرامج العمومية، وآثاره على تدخلات القطاعات الحكومية والمؤسسات والإدارات ذات الصلة بمُخرجاته، تجعلنا أمام مشروعٍ مهيكل يحتاج إلى تملكٍ مجتمعي واسعٍ وإلى حالة إصلاحية مدعمةٍ، وقبل ذلك إلى الكثير من بيداغوجيا التواصل المُوَاكب، داخل بيئة مؤسسية مُنصة للشركاء الاجتماعيين والفاعلين الاقتصاديين.
ذلك أن المغرب عبر أفق الدولة الاجتماعية، يُعيد – عملياً- ترتيب عقد اجتماعي وسياسي جديد، ويؤسس لديمقراطية بمدخل المواطنة الاجتماعية، قائمة على تفاعل تاريخي للدولة ومؤسساتها وسياساتها مع دينامية الطلب الاجتماعي المتواصل.
إذا كان لابد من التفكير – في سياق هذا المحفل العلمي- عن الدولة الاجتماعية كأفق للتفكير والتحليل والتأمل، بمقاربات الباحث العلمية وعدّته المنهجية ومسافته الموضوعية، فإنه من الممكن كذلك أن نُلاحظ في الاتجاه الآخر حاجة مشروع مهيكل مثل الدولة الاجتماعية إلى ما تُتيحه الجامعة من خِبرات مسندة للأداء العمومي، ومن أدبيات مسهمة في دورة تقييم السياسات، ومن منظومة مؤشرات لقياس النجاعة و الفعلية، ومن فضاءات للحوار العمومي و لتقاسم الحجج و لتأطير الرأي العام ومده بمرجعيات النظر الى الموضوع، بطريقة تمكن الفاعلين السياسيين والمدنيين والنقابيين من تجاوز لحظة إنتاج المواقف السريعة المبنية على الانطباعات العابرة أو التموقعات الظرفية أو الأفكار المسبقة.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.