
حين يصبح النسيان عقوبة للمبدعين
بقلم: عبد الحق الفكاك
في مشهد ثقافي يزداد فيه التنافس وتسوده اعتبارات التسويق والمشاهدات، تطفو على السطح وجوه جديدة، بينما تُطمر وجوه أخرى صنعت المجد وصاغت الذاكرة الفنية للمغرب لعقود طويلة.
أسماء وازنة من الجيل القديم، سطّرت إبداعاتها على خشبات المسرح وقاعات العروض، وامتلكت من الحضور والتألق ما لا يُنسى، تجد نفسها اليوم في عزلة غير مبررة، وكأنّ هناك إقصاءً ممنهجًا للمبدعين الحقيقيين.
لا نراهم على شاشات التلفزيون، ولا يُسأل عنهم في برامج التوثيق أو الفقرات الثقافية. تمر الأيام، ولا نتذكّرهم إلا في لحظة الفقد، حين يرحلون أو يصيبهم المرض المزمن، فنفيق متأخرين على وقع حسرة جماعية لا تنفع.
المؤلم في الأمر أن العديد من هؤلاء الفنانين اختاروا الوفاء للفن الأصيل، ورفضوا المتاجرة بإبداعهم، مؤمنين بأن الفن لا يُقدّر بثمن، وأن الكرامة أهم من الظهور.
إنهم رجال ونساء نذروا حياتهم للفن، ضحوا بأموالهم، وأفلتت من أيديهم فرص الحياة المريحة، فقط من أجل أن ترفرف راية الوطن عاليا في مهرجانات تونس والعراق والقاهرة وغيرها من المحافل التي كانت تقام حين كان للمسرح جمهوره الحقيقي من الهواة والمحترفين.
كانت تلك مرحلة ذهبية، راكم فيها أولئك الفنانون تجارب لا تُقدّر بثمن، وما أحوج الجيل الحالي إلى الاستفادة منها، بدل الاستعراض السطحي الذي يهيمن على المشهد اليوم.
واحد من هؤلاء المبدعين الذين غمرهم النسيان هو المرحوم عبد الكبير الباجي، الكوميدي الساخر الذي ارتبط اسمه بشخصية “الشاوش بوعزة” منذ سنة 1980.
رغم موهبته المتفردة وتجربته الطويلة، لم يُمنح ما يستحق من فرص في الأعمال الفنية الكبرى. وما لا يعلمه كثيرون، أن أسماء بارزة اليوم في الساحة الفنية صعدت على أكتاف هذا الرجل، واستفادت من سخائه الإبداعي والمعنوي.
بل إن البعض منهم لا يستحقون فعلاً لقب “فنان”، مقارنة بصدق التجربة التي جسدها الباجي وأمثاله.
والمؤسف أن هذه الظاهرة لا تقتصر على المسرح فحسب، بل تتكرر في عالم الكتابة أيضاً، حيث يتنازل بعض الأدباء عن إنتاجاتهم لصالح آخرين لأسباب مادية، في ظل غياب منظومة حقيقية لصون الحقوق الأدبية وتشجيع المبدعين.
فهل ننتظر الموت دومًا لنتذكر هؤلاء؟ أين القنوات الرسمية، المؤسسات الثقافية، وأين هي المبادرات التي تكرّم الرواد وهم أحياء؟ لماذا نحتفي بالأسماء التي تُجيد الظهور، ونتجاهل من أخلصوا للفن وماتوا في صمت؟
إننا بحاجة إلى مصالحة حقيقية مع ذاكرة الفن المغربي، لا تقوم فقط على التأريخ، بل على الاعتراف، التكريم، والتوريث.
فما لم يُوثق الآن، قد يُطمس لاحقًا، وتضيع معه قيم الجمال، الوفاء، والمبادئ التي شكّلت أساس الفن المغربي الأصيل.