
حين يُحاكم التاريخ الصمت العربي المريب
بقلم: عبد الحق الفكاك
في زمن تُقصف فيه المدن وتُجوّع فيه الشعوب وتُهدم فيه البيوت فوق رؤوس ساكنيها، يصبح الصمت جريمة والموقف الرمادي تواطؤًا مقنعًا.
ولعل أقسى ما يعيشه ضمير الأمة اليوم هو أن يرى غزة، وهي تُباد علنًا، بينما تلتزم أنظمة عربية عديدة صمتًا مريبًا وموقفًا سلبيًا يندى له الجبين.
فمن غير الممكن أن تمر كل هذه المجازر، وكل هذا التجويع، وكل هذا الحصار والتدمير، دون أن يُسجَّل في سجلات التاريخ موقف صارم تجاه من صمت وتخلى وتواطأ بالصمت، أو شارك بالفعل.
قد تسكت أجهزة الإعلام، وقد تُحذف المنشورات، وقد تُمنع الوقفات، لكن التاريخ لا يُحذف، ولا يُراجع ببلاغ وزاري، ولا يخضع للرقابة الأمنية ؛ إنه يسجل كل شيء، حرفًا حرفًا.
ولهذا، فلا بد أن يأتي يوم يُحاكم فيه التاريخ حكومات عربية عديدة على عجزها، لا، بل على تخاذلها المتعمد في نصرة غزة.
وإذا كان من البديهي أن يتحمل الاحتلال مسؤولية جرائمه، فإن المسؤولية الأخلاقية والسياسية والدينية تتحملها أيضًا الأنظمة التي وقفت موقف المتفرج، وكأن غزة ليست عنوانًا لقضية عادلة بل مجرد أزمة إنسانية عابرة.
في السياسة، يمكن أن نغفر التأني، أو التدرج في اتخاذ القرار، أو حتى الخوف من العواقب.
لكن لا يمكن أن نغفر التواطؤ الموصوف تحت مسمى “الحكمة” أو “الحياد”.
لأن الحياد في زمن المجازر خيانة. والصمت في حضرة الإبادة جريمة لا تغتفر.
لقد سقطت كل الأقنعة، وتبيّن أن البعض يفضّل علاقاته الدولية على حساب دماء الأبرياء، ويخشى من زعزعة استقراره أكثر مما يخشى الله والتاريخ والضمير.
ما يزيد من مرارة الواقع هو أن الشارع العربي – في كثير من الدول – لم يتأخر عن التعبير عن غضبه، وعن تضامنه، وعن استعداده للدعم والمناصرة بكل السبل.
لكن للأسف، بقيت الكثير من المؤسسات الرسمية تدور في فلك البيانات الباردة، أو تطبّع في الخفاء، أو تغلق معابر الدعم، أو تمنع حتى الدعاء.
هذا التناقض بين إرادة الشعوب ومواقف الأنظمة يضعنا أمام سؤال وجودي: من يمثل الأمة؟ ومن يقرر في قضاياها المصيرية؟
لا شيء يدل على أن غزة ستنسى. لا دم الشهداء، ولا أنين الجوعى، ولا صرخات الأطفال من تحت الركام، ستُمحى من ذاكرتها الجماعية.
ولأنها اعتادت أن تُخذل من القريب قبل البعيد، فإنها ستبني سرديتها على ما تراه وتلمسه، لا على ما يُقال في المؤتمرات.
ولهذا، فإن التاريخ الذي سيكتبه أهل غزة لن يكون لطيفًا مع من وقف على الهامش وهو يرى موتهم البطيء ولا يحرك ساكنًا.
حين تُكتب فصول هذا الزمن لاحقًا، لن تُقرأ فقط من زاوية الإدانة لجرائم الاحتلال، بل من زاوية الخذلان العربي الكبير.
وستكون المحاكمة قاسية، لأن القاضي حينها سيكون التاريخ نفسه، لا يسكت ولا يهادن ولا يساوم.
فهل يستفيق الصامتون قبل أن يسقطوا في مزبلة التاريخ؟ أم أن غزة ستبقى وحدها، تقاتل الموت بحياتها، وتقف أمام العالم وأمام الصامتين… كوصمة لن تُمحى؟