
من “الصندوق العجيب” إلى صندوق الفرجة فقط: التلفاز بين الأمس واليوم.
بقلم: عبد الحق الفكاك
في زمن لم يبتعد كثيراً عن ذاكرتنا، كانت التلفزة تُعدّ ضيفاً ثقيلاً غير مرحب به في بيوت الكثير من الأسر المحافظة. كانت النظرة إليها مليئة بالريبة والتخوف، خصوصاً من مضامينها التي وُصفت في بعض الأحيان بأنها دخيلة على أخلاق المجتمع وعاداته.
إذ لم تكن الأفلام وسهرات نهاية الأسبوع لتجد طريقها بسهولة إلى تلك البيوت، ومع ذلك، كانت فتيات الأسر المحافظة يتسللن خفية إلى بيوت الجيران لمتابعة حلقات بعض المسلسلات، متعطشات لقطف ما تساقط من “ممنوعات الشاشة”.
لكن، ما لبث أن تبدّلت الأحوال، وأصبح التلفاز عنصراً أساسياً في كل بيت، بل ومركز ثقل في فضاء الضيافة.
لم يكن هذا التحول وليد الصدفة، بل نتيجة اقتناع متزايد بكون هذا “الصندوق العجيب” مصدراً مهماً للأخبار، والربورتاجات، بل وحتى البرامج الثقافية التي أضحت مرآةً لعوالم قريبة وبعيدة.
دخل التلفاز البيوت بلباس جديد: لباس التثقيف والتوعية، وحجز لنفسه مكانة مرموقة داخل الأسر، على اختلاف مستواها الاجتماعي.
ورحم الله زماناً كانت فيه التلفزة منابر للنقاش، أدوات للتعبئة، وجسوراً للمعرفة.
ففي فترات السلم كما في زمن الحرب، استثمرت الحكومات هذه الوسيلة الجماهيرية لترسيخ قيم المواطنة، وتعبئة الشعوب، وحشد الرأي العام حول قضايا مصيرية.
لم تكن الشاشة مجرد سطح مضيء، بل كانت نافذة مشرعة على العالم، جواز سفر ثقافي يتيح لك أن تكتشف حياة الشعوب، عاداتهم، تقاليدهم، ولغتهم حتى.
بل وكانت أداة للتعلم عن بعد، ومنبراً للدراسة والتكوين غير النظامي، مما سرّع بانتشارها بشكل غير متوقع.
لكن، ويا للمفارقة! اليوم، انقلب المشهد رأساً على عقب.
تخلّت التلفزة تدريجياً عن أدوارها التنويرية، وتحوّلت إلى منصة للفرجة العابرة والتسلية السطحية. الشاشة التي كانت تنبض بالحياة الفكرية والثقافية أصبحت أسيرة عروض ترفيهية لا طعم لها، وبرامج استهلاكية تنضح بالإغواء الساذج.
المثير في هذا التحول ليس فقط المحتوى المتدني، بل الصمت الجماهيري المريب إزاء هذا الانحدار. وكأن المشاهدين قُدّر عليهم أن يستهلكوا ما يُعرض دون نقد أو مساءلة.
يغدق عليهم المنتجون برامج فكاهة تدّعي استهداف “المتعة”، لكنها في الحقيقة تقتل الحس النقدي، وتخدر الذوق العام.
ومن المؤسف أيضاً أن تستأثر هذه البرامج بجزء الأسد من الشبكات البرمجية، على حساب مضامين توعوية تربط التلفاز بواقع الناس، وتمنحهم أدوات للفهم والتحليل.
ولعل هذا ما دفع كثيراً من المشاهدين، وخاصة النخب، إلى البحث عن قنوات فضائية بديلة، تنبض بجدية وصدق، وتواكب تطلعاتهم.
إننا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في أمسّ الحاجة إلى إصلاح إعلامي شامل.
إصلاح يتجاوز منطق البهرجة إلى فلسفة أعمق في البرمجة والبث، تأخذ بعين الاعتبار تنوع الجمهور واختلاف جهاته وثقافاته.
إصلاح يفتح المجال أمام الطاقات الشابة كي تُعبّر عن ذاتها، وتُسهم في حفظ الموروث الشعبي، والتعريف به، بل وتطويره، وفق ما تقتضيه التحولات الرقمية والاجتماعية.
وفي هذا الإطار، فإن مشروع الجهوية المتقدمة يضع أمام الإعلام العمومي تحديات حقيقية.
فالرهان اليوم لم يعد مقتصراً على المركز، بل بات من الضروري التسريع في منح تراخيص لإقامة قنوات تلفزية جهوية، تنقل نبض الجهة، وتمنحها صوتاً وصورة في الفضاء الإعلامي الوطني.
فلكل جهة خصوصيتها، وهمومها، وطموحاتها، ولا يمكن اختزال المغرب في قناة واحدة، أو في خطاب واحد.
إن إعلام الجهة، إذا ما تحقق فعلاً، سيشكل رافعة حقيقية للتنمية الشاملة، ومجالاً خصباً للنقاش العمومي المحلي، بمشاركة الفاعلين المدنيين، والسياسيين، والمثقفين، والفنانين، وكل المكونات الحيوية التي تصنع الحياة اليومية للناس.
وبهذا، نستعيد شيئاً من هيبة التلفاز، ونعيده إلى سكته الأصلية: التنوير، التثقيف، والتأثير البناء.
فهل آن الأوان لنرى تلفزتنا تُصغي إلينا من جديد؟