
البيت الذي يسكننا
بقلم : عبد الحق الفكاك
في زمنٍ تتسارع فيه المدن، وتتغيّر فيه العناوين، وتتراكم فيه الأبراج والإقامات، ننسى أحيانًا أن بين جدرانٍ كانت بسيطة، عاش شيء لا يُنسى… اسمه البيت.
ليس البيت الذي تملكه، ولا الذي تدفع أقساطه شهريًا… بل ذاك الذي يسكنك، رغم مرور الزمن، رغم ابتعاد المسافة، رغم التهام الإسمنت لكل ما هو حميميّ وبسيط.
بيت العائلة، ذاك الذي لا يحتاج إلى عنوان بريدي، يكفي أن تغمض عينيك لتجده:
فهو هناك… في رائحة الخبز، في صوت أمٍّ تناديك، في فراشٍ مفروش بزربية قديمة، في كرسيٍّ خشبيٍّ ينتظرك في زاوية ما من الذاكرة.
هذه المقالة – وإن شئت خربشة – ليست قصةً شخصية فقط…
بل هي مرآة جماعية لكل من تربّى على الدفء، على البساطة، على الحبّ الصامت.
هي دعوة لأن نفتّش في داخلنا عن تلك الأمكنة التي لم نعد نزورها، لكنها ما زالت، دون إذن منّا… تسكننا.
ليس كل ما يُهدم يُنسى، وليس كل ما غاب عن أعيننا قد غادر قلوبنا. هناك بيوت لا تسكنها الأجساد، بل الأرواح.
بيوت حين نغادرها تظلّ فينا، تظلّ تطرق أبواب ذاكرتنا كلّما داعب الحنين أطراف المساء.
كلٌّ منّا، دون استثناء، يحمل في داخله بيتًا…
بيتا ربما اضطرتنا الظروف الى مغادرته لسبب من الاسباب ، او ربما اننا قد تهنا عنه ولم نعد مسكنه بقدر ما صار يسكننا..
لكننا نعود إليه كلما تعبنا، كلما ضاقت بنا الحياة، كلما أردنا أن نلمس شيئًا حقيقيًا… أصيلًا.
ذلك البيت…
الذي كان يشبه أمهاتنا، بصبرهنّ واتساع صدورهنّ.
بيتٌ تنبعث منه رائحة الخبز الساخن، والماء الزهر، وصوت جداتنا وهنّ يُحذّرننا من الخروج ليلًا.
هل تذكره؟
كان صغيرًا لكنه يتّسع للعائلة كلّها،
بهوه كان ملعبًا للأطفال، ومجلسًا للكبار، ومحرابًا للصمت في لحظات التأمل.
كانت ليلة العيد فيه مهرجانًا عفويًا:
الزربية تُغسل، النوافذ تُمسح، والقلوب تُهيّأ لاستقبال فرح لا يُشترى.
أمهاتنا كنّ يخبزن ويغنين، وآباؤنا كانوا يخرجون فجراً ليشتروا “الخروف” أو يتبادلوا التهاني مع الجيران،
وكانت الفرحة لا تحتاج إلى ألعاب إلكترونية، بل فقط إلى قطعة “شباكية”، وابتسامة أمّ، وهمسة دعاء.
لكن أين ذهب هذا البيت؟
أهو رحل مع الذين رحلوا؟ أم ابتلعه الزمن وسط الإسمنت والزجاج؟
الحقيقة أننا لا نفقد البيت… بل نفقد أنفسنا عندما نكفّ عن تذكّره.
البيت الذي نشأنا فيه، لم يكن ملكًا للعائلة فحسب، بل ملكًا لذاك الطفل الذي كنّاه، للإخوة الذين كانوا يشاركوننا المعاش والفراش .
لتلك الليالي التي نمنا فيها قرب أمهاتنا، ونحن نرتجف من صوت الريح، ونطمئن إلى دفء حكايات الجدات.
وكل من يقرأ هذا الآن، لربما يشعر أن الكلام يخصّه…
لأنه في الحقيقة يخصّنا جميعًا.
من منّا لا يفتقد رائحة بيت العائلة؟
من منّا لا يبحث، دون وعي، عن باب قديم، عن ضوء أصفر خافت، عن نداء أمّ من المطبخ.
عن ليلة شتاء دافئة حول “الكانون”، عن نافذة مطلّة على الزمن الجميل؟
قد لا نستطيع أن نعود إليه جسديًّا، لكن بإمكاننا أن نُحييه في ذاكرتنا .
في حكاياتنا لأبنائنا، في طريقة ترتيب الفراش، أو في بساطة الإفطار، أو حتى في صمت نمارسه حين يضجّ العالم من حولنا.
ذلك البيت، وإن غاب، ما زال يسكننا…
يسكن في نظرة شوق،
في دمعة لا نعرف سببها،
وفي حلم نعود فيه صغارًا، نركض حفاة، ونضحك بلا سبب.
رجاء لا تبحث عن البيت في العنوان العقاري. .. المدون على البطاقة الشخصية
ابحث عنه في قلبك.
اكيد ستجده هناك…
ستجده في ماضيك ..
في ذكرياتك .
هناك بداخلك. ..
حيث انت
نعم انت ..
بادق تفاصيلك.