
حين كانت السينما تعلِّمنا ابجديات الحياة.
بقلم : عبد الحق الفكاك
في زمنٍ ولّى، كان للظلام طُهرٌ لا يُقاوَم، وكان للمقاعد الخشبية المترنحة دفءُ العائلة، وكان للسكوت في صالة السينما وَقْعُ صلاةٍ جماعية لا تقطعه إلّا أنغام الموسيقى القادمة من الشاشة.
كُنّا أطفالاً لا نملك من العالم شيئاً سوى شوقٍ جارح لمعرفة ما وراء الأفق، فجاءت السينما تُهدي إلينا نافذة نُطلُّ منها على الحلم.
رغم أن الدخول إليها كان، في أعين الكبار، من المحظورات، بل وفي كثير من الأحيان، كان يُنظر إليه كـ”عيب وعار”.
ورغم دلك كنا نغامر، نخفي الأمر، ونحتال على الجميع ، فقط لنحظى بساعة من هذا السحر العجيب الذي يقال له السينما.
وكم من مرة نلنا العقاب الصارم، ومع ذلك، كنا نعود، وكأنّ السحر أقوى من الخوف.
بل حتى في الأعياد، لم تكن الألعاب ولا الملابس الجديدة أولويتنا.
بل كانت السينما اكبر همنا ، نعم كنا نجمع ريالات العيد، لنركض نحو القاعة قبل الامتلاء،.
ليس سهلاً أن تصل إلى شباك بيع التذاكر بسبب الزحام الرهيب الذي لا ينتهي حتى مع بداية الفيلم الاول .. فعادة ما كان يسبقنا إلى الشباك اولاد درب الجديد والملاح .
ولكي تحصل على تذكرة كان عليك أن تصبر و تتجلد و تتوقع كل سيئ بما في دلك سرقة نقودك أو حتى خطف التدكرة من يدك !
كان الدخول في الزحام و الوصول إلى الشباك أشبه بمغامرة محفوفة بالمخاطر .. لكن كل شيئ يهون حينما تجد نفسك بقدرة قادر أمام ” الگيشي ” حيث يجلس ” داك المجهول” الذي ياخد النقود بسرعة ويناولك التداكر بخفة يد مبهرة .
لم نكن ندري أن تذاكرنا الصغيرة تلك كانت جوازات سفرٍ إلى بلادٍ لا نراها على الخريطة.
كانت السينما مدرستنا السرية، تُعلِّمنا أن نبكي دون خجل، أن نحب دون شروط، أن نصدق البطل حتى وإن سقط في منتصف الطريق.
ولكي تكتمل الفرحة و تدخل صالة السينما كان لابد من أن تمر عبر البواب أو المرشد الدي سيرافقك إلى مقعدك بواسطة قنديل آلى ” بيل ” يحمله في يده يسع منه ضوء خافت .
كان هذا البواب الغليظ القلب ادا لم تناوله 10 فرنك على الأقل ، اخد منك التدكرة ورمى بك الى الداخل بعد أن يمزيق تدكرتك إلى نصفين .
عندها ، انت وحظك ستسبح في الظلام تجر رجليك وترمي بيدك باحثا عن مقعد كالاعمى .
و كنا ادا لم نجد كرسياً، جلسنا على الأرض أمام الشاشة العملاقة، لا نبالي بشيء سوى أن لا يفوتنا مشهد.
لم تكن السينما مجرّد قاعة مظلمة، بل كانت فسحة للانبهار، للدهشة، وللتمرد أحيانًا.
كم كان بهرنا ذلك الظلام الذي يسبق بداية الفيلم! كنا نغرق في صمتٍ مهيب، نحبس أنفاسنا مع أول لقطة، وننسى أنفسنا أمام البطل، نتألم معه ونفرح له، نغضب حين يُظلم، وننتشي حين ينتصر
كانت الأفلام الهندية، خاصة، تسرقنا من طفولتنا، لا لتعيدنا رجالاً، بل لتغرس فينا بذور الوفاء والمروءة والشهامة.
بصراحة كانت تلك الهنديةتؤثر فينا بشكل كبير ، كانت تصنع داخلنا عالمًا موازيًا..
نعم ، كانت الافلام الهندية ترسم ملامح أحلامنا الأولى، وتغذي إحساسنا بالعدالة، بالحب، وبالكرامة.
ومن لفرط حبنا لهذه الافلام فقد حفظنا أسماء نجوم بوليوود عن ظهر قلب، وغنّينا أغاني أفلامهم، بعضنا كان يرددها رغم أنه لا يفهم معناها، وكأن السينما وحدها كانت تكفي لترجمة العاطفة.
ومع الوقت، صرنا نميز بين نهاية سعيدة وأخرى مأساوية، وبدأنا نفهم كلمات بالهندية والإنجليزية دون أن ندري من أين جاءت هذه الملكة.
أذكر، كيف كنا نغادر القاعة ونحن نُقلّد حركات البطل، نُحاور الريح كما لو أنها البطلة التي خانها الزمن، ونُقسم للسماء أننا سنصير ذات يوم مثل “راجو” أو “أميت”، لا نهاب الأشرار، ولا نخون الأصدقاء، ولا نبيع القلوب في سوق الحياة.
لقد كانت السينما في طفولتنا أشبه بالحلم… شاشة كبيرة تفتح نافذة على عوالم بعيدة، وشخصيات تعيش مواقف لم نعهدها في أحيائنا الشعبية الضيقة، لكنها لا تزال تسكننا إلى اليوم.
حقيقة ، لم تكن السينما مجرّد قاعة مظلمة، بل كانت فسحة للانبهار، للدهشة، وللتمرد أحيانًا.
كم بهرنا ذلك الظلام الذي يسبق بداية الفيلم! كنا نغرق في صمتٍ مهيب، نحبس أنفاسنا مع أول لقطة، وننسى أنفسنا أمام البطل، نتألم معه ونفرح له، نغضب حين يُظلم، وننتشي حين ينتصر.
نعم ، كانت السينما تبني شخصياتنا قطعة قطعة، وكل مشهد نُشاهده كان يُضيف لبنة في جدار الروح. لم تكن مجرّد تسلية، بل كانت تربية وجدانية، تُطوّع مشاعرنا وتُهذِّب حواسنا. في ظلام القاعة، كنا نكتشف النور في داخلنا. في صمت المشاهدين، كنا نسمع صوت ضميرنا لأول مرة.
بصدق ، بالنسبة لي شخصيا كانت الافلام الهندية مدرستي الأولى في المشاعر، والمقاومة، والحلم.
بالنسبة لي ، لم تكن فقط فنًّا، بل كانت تشكل لي بوابة لهروب نحو الممكن، نحو الآخر، نحو عالم أكبر من الجدران الأربعة التي فتحت فيها عيني .
للاسف ، الان لم تعد تلك القاعات السينمائية كما كانت، وقد أغلق كثير منها أبوابه، لم يبالي أحد بمشاعرنا ، بل لم يشعروننا بنيتهم في دفن دلك الماضي البسيط من الزمن الجميل.