
“وَجَعُ الغِيابِ الَّذِي لا يُقاسُ بِالمَسَافَة”
بقلم : عبد الحق الفكاك
الغِياب…
لَيْسَ ما نَظُنُّهُ فَقْدًا لِلأَصْوَاتِ أو لِلْوُجُوهِ أو لِلْخُطَى الَّتِي تَبتَعِدُ.
الغِيابُ لَيْسَ أنْ يَغِيبَ الجَسَد،
بَل أنْ يَغِيبَ الحُضُورُ حينَ تَحتَاجُهُ أكثَر.
الغِيابُ، فِي حَقيقَتِهِ، لَا يُقَاسُ بِالكِيلُومِترَاتِ،
بَل يُقَاسُ بَعَدَدِ المَرَّاتِ الَّتِي احْتَجْتَ فِيهَا صَوتًا يُشَاطِرُكَ فَرَحَكَ… فَلَم يَأتِ.
بِعَدَدِ المَرَّاتِ الَّتِي وَقَفْتَ فِيهَا عَلَى حَافَّةِ انْهِيار،
وَظَنَنْتَ أَنَّهُ سَيَلتَفِتُ… فَلَم يَفعَل.
الغِيابُ هُو أن تَنجَحَ،
فَتُحَاصِرَكَ التَّهَانِي البَارِدَة،
بينما القَلبُ يَبْحَثُ عَنْ صَوتٍ وَاحِد،
كُنتَ تُريدُهُ أَنْ يَفرَحَ كَمَا تَفرَح،
أَنْ يَضُمَّ فَرَحَكَ فِي صَدرِهِ كَأَنَّهُ هُوَ مَنْ نَجَح.
الغِيابُ هُو أَنْ تَبكِي،
وَلَا تَجِدُ مَنْ تَقُولُ لَهُ: “تَعَالَ، لَا شَيءَ يَسيرُ جَيِّدًا”،
أَنْ تَكتُبَ رِسَالَةً طَوِيلَةً فِي خَيَالِكَ…
ثُم تُحْجِمُ، لِأَنَّهُ لَنْ يَفْهَم، أو لَنْ يَردّ، أو لَنْ يَكُونَ هُنَاك.
الغِيابُ لَيْسَ غِيَابَ شَخصٍ عَنِ المَكَان،
بَل غِيَابُهُ عَن تَفَاصِيلِك،
عَن ضِحْكَتِك، عَن لَمسَةِ قَلبِك، عَن كَيفَ تَتَغَيَّرُ مَلامِحُكَ حِينَ تَخجَل،
عَن الأُغنِيَةِ الَّتِي تُشْبِهكُمَا،
وَالمَقهَى الَّذِي كُنتُما تَحلُمانِ أَنْ تَعودَا إِلَيهِ.
أَعظَمُ الوِحدَةِ،
أَنْ تَكُونَ مُحَاطًا بِالنَّاسِ، وَتَشتَاقُ لِشَخصٍ وَاحِد،
لِكَلِمَةٍ وَاحِدَة، لِنَظْرَةٍ صَادِقَة، لِحَضنٍ يُخْفِي الدُّنيَا وَيَحْمِلُكَ كما أنت،
مُنْكَسِرًا… ضَاحِكًا… مُتعَبًا… صَامِتًا.
كُنتُ أَظُنُّ أَنَّ المَسَافَةَ هِيَ مَا يُفَرِّقُنَا،
أَنَّ القُربَ يَعنِي الوُجُود،
أَنَّ البُعدَ سَبَبُ الغِياب…
لكنَّنِي أَكتَشِفُ الآن،
أَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا، سَيَجِدُ طَرِيقًا لِلقُربِ،
وَمَنْ أَختَارَ الغِيابَ،
سَيَبقَى غَائِبًا، وَلَو كَانَ جَالسًا جَانِبَكَ.
المُشكِلَةُ لَيسَت فِي أَنْ نَفتَقِدَ،
بَل فِي أَنْ نَحتَاجَ وَلَا نَجِد…
أَنْ نَكُونَ فِي أَشدِّ لحَظَاتِنَا بَشَرِيَّةً،
فَنتَحَدَّثُ إلى فَراغٍ لا يَرُد،
إلى صُورَةٍ لَا تَتَحَرَّك،
إلى اسْمٍ فِي قَائمَةِ الهَاتِفِ لا يَجرؤ أَصبُعُنَا عَلَى لَمسِهِ.
فَقَدْ تَأتِي لَحظَةٌ،
نَحتاجُ فِيهَا مَن يَقُولُ لَنَا: “أَنَا هُنَا”،
وَإذَا لَم نَجِدْه…
نَنهَارُ بِصَمت،
نَبكِي مَعَ أَنفُسِنَا،
نَضحَكُ مَعَ المَرَايَا،
وَنُقنِعُ قُلُوبَنَا أَنَّ الطَّريقَ وَحِيدٌ، وَيَجِبُ أَنْ نَتَعلَّمَ كَيفَ نَمضِي… وَحدَنَا.
ومع كُلِّ هذا،
لا زلتُ أَتَسَاءَل…
كَم مرّةً احْتَجْتُكَ فِيهَا وَلَم تَشْعُر؟… وَكَم مرّةً شَعَرتُ بكَ تَختَفِي وَأَنتَ تُحدّقُ فِيَّ؟