
حين تختلط المباريات: من زياش إلى غزة، ومن الملعب إلى ميادين الصراع
بقلم: عبد الحق الفكاك
قلّما أجدني في مثل هذا الطابور… صف طويل من الوجوه المتجهمة، عيون مشدودة إلى شاشة تلفاز مثبتة في زاوية مقهى مكتظة، الصمت سيد المكان، وكأن على رؤوسهم الطير.
إنها ليست المرة الأولى التي أكون فيها شاهدًا على مباراة مصيرية، لكن ما رأيته تلك الليلة جعلني أتساءل بعمق: هل كل ما يشغل الناس الآن هو كرة تضيع بين أقدام اللاعبين؟
وجدتني وصاحبي نتابع من الرصيف أطوار مباراة كروية قيل إنها “تاريخية”، وكأن مصير الأمة معلق على قدم زياش أو تصدي بونو !
أنا، بطبيعتي، لست من المتحمسين لمتابعة تفاصيل كأس العالم للأندية، ولا ممن يرفعون راية التشجيع لأندية محلية أو دولية.
أكتفي، إن شئت، بملخص إخباري في آخر النهار، ببعض لقطات الإعادة وتسجيل الأهداف. ومع ذلك، بقيتُ هناك، فقط لأن صاحبي كان يحتضر أعصابيًا مع كل تمريرة خاطئة، وكل تسديدة ضائعة، مرددًا بغضب: “لا أصحبي!”
لكن، وأنا جالس هناك وسط الصخب والانفعال، كان سؤال صامت يتردد في داخلي:
كم من مباراة تجري الآن؟
أقصد الآن تحديدًا، في هذه اللحظة… ليس في الملاعب، بل في الواقع.
كم من معركة مصيرية، صاخبة، دامية، تُخاض دون جمهور، دون أن تثير هتافات أو توترًا شعبيًا مشابهًا؟
في غزة الآن، لا تُهدر ضربات جزاء، بل تُهدر الأرواح ..
هناك شعب بأكمله يواجه آلة عسكرية بلا رحمة، مدن تُسحق فوق رؤوس سكانها، مستشفيات تُقصف، وأطفال يبحثون عن أمهاتهم تحت الأنقاض.
منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم، غزة ليست مجرد مباراة، إنها امتحان أخلاقي كوني، ومع ذلك تُعامل كفقرة مملة في نشرات الأخبار.
وفي أوكرانيا، لم تنته المباراة بعد…
الملعب مفتوح على جبهات متعددة، ضحايا بالملايين، ومصير دولة معلّق بين مطرقة الناتو وسندان الطموحات الروسية. مباراة باردة وساخنة في آن، تجري منذ فبراير 2022 ولا أحد يعلم متى ستنتهي ولا كيف.
ثم هناك المباراة “الصامتة” بين إيران وإسرائيل…
رشقات صاروخية متبادلة، اغتيالات، ضربات تحت الحزام، وعين على المفاعل النووي وأخرى على خطوط النفط.
مواجهة لم تعلن الحرب رسميًا، لكنها تدور بشكل مستمر، بكل ما تحمله الكلمة من خطر الانفجار.
هذه فقط بعض “المباريات” الدولية. لكن محليًا، لا تقل المباريات سخونة وتعقيدًا:
مبارة النقابات ضد الحكومة بشأن مشروع التقاعد، والتي قد تحدد مستقبل جيل كامل من الشغيلة.
مقابلة الفعاليات المدنية ضد معاشات البرلمانيين، معركة رمزية حول العدالة الاجتماعية.
مواجهة المواطنين ضد عرقلة المشاريع التنموية، والتي ترهن حقّ الناس في الصحة والتعليم والبنى التحتية.
بل حتى مباريات الانتخابات، التي تتكرر كل بضع سنوات، بين نبلاء الإصلاح وسماسرة الفساد.
الغريب أن هذه المباريات تمس حياتنا اليومية، ترسم ملامح مستقبلنا، ومع ذلك تمر بصمت، أو باهتمام فاتر.
لا نجد لها تحليلات مطولة، ولا جدالات محتدمة، ولا دموعًا تنهمر بعد الخسارة، كما نفعل حين تضيع ضربة جزاء!
هل أصبحنا نحيا في مفارقة كبرى؟
نهتف للمنتخب ونصمت أمام المجازر، نحرق أعصابنا من أجل هدف ضائع، ولا نتحرك حين يُسحق حلمٌ وطني أو يُسرق حق عمومي.
ربما آن الأوان أن نعيد ترتيب أولوياتنا، وأن نتابع “مباريات الحياة” بنفس التركيز، ونصطفّ لها في طوابير الوعي قبل طوابير المقهى.
أن نُشجع قضايا الإنسان كما نشجع الكرة، ونغضب من الظلم كما نغضب من الخسارة، ونصفق حين يحقق الشعب “فوزًا” في ساحة النضال.
فالعالم ملعب، لكن الأهداف الحقيقية لا تُسجل بالقدم… بل بالموقف.